بسم الله الرحمن الرحيم
لم يكن من المتوقّع أن يكون للأهازيج الرياضيّة أيّ تفاعل سلبي ذو مؤشّر خطر يتعلّق بالمسكوت عنه على الأقل في مواسم معيّنة. لكنّ ما حدث في مباراة فريق "الهلال" السعودي، أحد أشهر فرق الدوري السعودي، مع فريق "نجران"، أحد أبرز الفرق المكافحة للبقاء ضمن دائرة الامتياز، كان يعني الكثير. الشرارة، بحسب ما تناقلته وسائل الإعلام المختلفة قبل أيّام، انطلقت عندما أطلقت بعض جماهير فريق "الهلال" هتافات عنصريّة ضدّ جماهير الفريق الخصم "نجران"، وقد قيل عنها إنّها كانت نشازًا وغير متوقّعة وتعكس عنصريّة مناطقية مقيتة، وهو من الأمور المعروف تواجدها بشكل أو بآخر داخل كيان المجتمع السعودي والذي ينحو منحىً أكثر عمقًا عندما يتعلّق بالعنصريّة "القَبَليّة).
الهتافات التي أُطلقت كانت تحمل عبارات منها وصف "الزيود" وهي كلمة قصد بها الإشارة إلى أنّ أصول أهالي "نجران" (أقصى جنوب
السعوديّة على الحدود اليمنيّة) تعود إلى المذهب الزيدي الشيعي الذي يسود مناطق شمال اليمن، وقد قصد مردّدو الهتافات التأكيد على ذلك في ظلّ الهتافات المتبادلة والتي وصلت حدّ المشاحنة منطلقة من تعصّب رياضي غير مقبول ويخرج عن أهمّ مبادئ التّعامل الإسلامي الداعي إلى التّسامح والأخوّة وألاّ فضل لأحد على أحد إلاّ بالتّقوى.
رئيس نادي "نجران" مصلح آل مسلم، الذي صدمه الأمر، وصف ذلك بـ"التجاوزات الخطرة التي بدرت من قبل جماهير نادي الهلال بعدما تلفّظت بشكل جماعي بألفاظ عنصريّة ضدّ لاعبي نجران، وعلى المسؤولين في لجنة الانضباط التحقيق بالأمر وعدم السكوت عن تلك الألفاظ
العنصريّة المسيئة". فيما ردّ عليه نظيره رئيس نادي "الهلال" الأمير عبد الرحمن بن مساعد بقوله: "نحن كهلاليين تعوّدنا على الأفلام التي يؤلّفها مسؤولو الفرق التي لا تجاري الهلال، وأنا مع معاقبة نادي الهلال بسبب الألفاظ
العنصريّة شريطة المعاملة بالمثل؛ حيث لم تتمّ معاقبة أيّ جماهير كانت تهتف بعنصريّة وبلا خجل ضدّ نجوم نادي الهلال العام الماضي، ونتمنّى من الجماهير الرياضيّة كافة عدم المساس بوحدة هذا الوطن الشامخ بسبب تعصّب رياضي مقيت؛ فأهالي نجران، كبيرهم وصغيرهم، كما هم أهالي كافّة مناطق المملكة العربيّة السعوديّة، لهم التقدير والاحترام".
أمّا رئيس لجنة الحكّام الرئيسة في الاتّحاد السعودي، عبد الله الناصر، فقد نفى تمامًا ما قيل عن أنّ الجميع سمعه حين قال: "لم أسمع أيّ كلمة من جماهير الهلال خلال المباراة".
المسكوت عنه:
وبغضّ النظر عن النفي من الإثبات، فإنّ هذه الحادثة أعادت فتح بعض صفحات "المسكوت عنه" من هذا الموضوع وبشكل لا يمكن تجاهله في ظلّ التحليلات التي أعقبته بخاصّة في وسائل الإعلام الرياضيّة التي تحظى بمتابعة كبيرة من الجماهير الرياضيّة في
السعوديّة وغالبيّتهم في مرحلة عمريّة لا تتجاوز منتصف العشرينات.
يقول أحد الإعلاميّين لـ"إيلاف": "الأمر طبيعي وكلّ ما حدث هو أنّ مؤشّرًا ما ارتفع قليلاً. عندنا في المملكة عنصريّة إقليميّة مناطقيّة وحتى قَبَليّة بشكل أكثر بشاعة. فالكلّ يعرف أن العاصمي يتهكّم على الجنوبي، والشرقاوي على الغربيّة، والشمال على الجنوب وأحيانًا العكس، ويصل الأمر إلى تبادل صفات ترمي الآخر بأنّه أصلاً خارج دائرة الوطن، وتتصاعد هذه
العنصريّة بدرجات معيّنة كما تنخفض كذلك بالتذبذب نفسه في مناطق الوسط. ومعروف أنّ هذا الأمر موجود ويمكن ملاحظته بالذات في التعصّب الرياضي وفي أماكن التنافس، ويمكن قراءة نماذج سيئة جدًّا في المواقع الالكترونيّة والكثير من النّكات المسيئة مناطقيًّا. الأمر بحاجة لعلاج اجتماعي مقنن ودعم رسمي ربما. التغيّرات في المجتمع السعودي نحو الإصلاح لم تطل هذا الأمر للأسف".
ويعلّق أحد الشبّان في موقع إلكتروني على بعض جوانب هذا الأمر بقوله: "قرأت مقالاً في إحدى الصحف يقول كاتبه إنّ مدينة جدّة هي مركز التغيير، وبريدة هي مركز المقاومة لذلك التغيير، ويردّ الآخر بأنّ بريدة هي مركز التغيير وتتوافر فيها شروطه وإمكاناته. قرأت المقال وأنا أتحسّر على مسقط رأسي فهي ليست جدّة ولا بريدة، وأستغرب من هذا الطرح الذي يختزل بلدًا وحضارة أمّة في مدينة! هذا التعصّب أعمى". فيما يقول آخر: "يا أخي أنا تربّيت منذ صغري على أنّ أهل القصيم ونجد فيهم كيت وكيت وأهل جدّة كيت وكيت، وعشت عمري على كذا ولمّا دخلت جامعة البترول وجدت أهل نجد فيهم طيّبين وأهل جدّة فيهم مطاوعة. سبحان الله مشكلتنا في التعميم. لي 8 أصدقاء من جيزان (جنوب السعودية) من أعزّ أصحابي والبارحة جاءني صهري ونسف لهم كلّهم وعندما حاولت الدّفاع عنهم قال: إنت ما تعرفهم !".
مسؤوليّة النخب:
وعلى الرّغم من أنّ مثل هذا
المناطقيّة موجودة في
السعوديّة وغيرها، إلاّ أنّها سرعان ما تطفوا حتّى لدى أكثر المتعلّمين والمثقّفين على حدّ سواء لمجرد خلاف قد لا يحتمل الخروج عن المسار. الكثير من الآراء التي تطرح عادة كلّما سبقت أيّ محاولة لقياس الرأي حول ذلك سرعان ما تتحوّل إلى تراشق وتبادل الاتّهامات، فيبدأ ذلك التراشق بالوصم لجهات معيّنة بالتشدّد الديني والعنصريّة المقيتة، فيما يتمّ وصف جهة ما بأنّهم "طروش بحر"، وجهة ثالثة بأنّهم "أبو يمن" نسبة إلى القرب من الحدود اليمنية، وأنّ حقيقة الأصول تعود إلى هناك، ويتمّ وصف جهة رابعة بأنّها سنيّة متشدّدة أو شيعيّة عدائيّة...الخ .
ويبدو أنّ الموضوع شائك ومتشعّب أكثر من زاوية رؤية أنّ البعض يحظى بأكثر ممّا يجب، الأمر الذي خلص إليه الكاتب سعود عبدالله القحطاني في كتابه "النخب السعوديّة... دراسة في التحوّلات والإخفاقات" حيث يُحمّل تلك النخب مسؤوليّة تتجاوز الولاء للوطن إلى الولاء للأقاليم والمناطق، تلك النخب التي يرى أنّها لا تتجاوز النخبة الوزاريّة والاستشارية والمشايخية (المؤسّسة الدينية) و البيروقراطيّة (المؤسسة الإدارية) والنخبة الفكريّة، وأنّها تسبّبت بأنّه "حتى الإقليم نفسه لا يشارك بكامله، بل تتمّ العمليّة بشكل انتقائي ومن خلال أسر وعائلات معيّنة وأنّ واقع تفكير البيروقراطيّة لم يتجاوز بعد حدود مصالح العائلة والإقليم والحارة"، وأنّ الحراك الاجتماعي في
السعوديّة هو "حراك منغلق في دوائر ضيّقة مناطقيّة أو عائليّة أو مصلحيّة " مؤكّدًا على أنّ التّعليم يعدّ عاملاً مهمًّا في سبيل الحراك الصاعد".
عوامل مساعدة:
ومن الطريف أنّ عين التعصّب لدى البعض ترى أنّ هناك جهات معيّنة تساهم في تذكية الأمر بشكل أو بآخر مثلما قيل إنّ شركة الهاتف ساهمت في
العنصريّة المناطقيّة حيث تقول إحدى الكاتبات: "هذه
العنصريّة تمتد لتشمل أبناء القبائل، وهذا التقسيم في رأيي يعود في جذوره إلى شركة الهاتف السعودي عندما وضعت لكلّ منطقة مفتاحًا فأصبحت أرقام هذه المفاتيح في مجتمعنا تنابذًا بالأرقام فـ 07 للجنوبيّين و01 لأهل الوسطى و02 للغربية و03 للشرقية...الخ ، مثل هذه التسميات والتقسيمات كيف انتشرت وتمادت من دون أن تسترعي اهتمام المسؤولين عن وحدة أفراد مجتمعنا الثقافيّة والقيميّة".
أمّا الكاتب الصحفي خلف الحربي فيصف
المناطقيّة بأنّها "لعبة الانكماش" حيث يقول: "اليوم ليست ثمة ظاهرة متخلفة في مجتمعنا تنافس ظاهرة التعصّب القبلي سوى ظاهرة التعصّب المناطقي والإقليمي والتي يمكن اكتشافها بسهولة في بعض أماكن العمل أو تأمّل بعض الصداقات المحكومة بالهاجس الإقليمي أو بالاستماع إلى مجموعة من الأفكار الشائعة التي يتداولها العموم. المستغرب لدى أهل الأرياف حين يهاجرون إلى المدن الكبيرة ويتّجهون فورًا إلى أحياء يقطنها أقارب لهم من الإقليم الجغرافي نفسه الذي جاؤوا منه أن تبقى نظرتهم إلى الآخرين باعتبارهم أغرابًا. خطورة التعصّب المناطقي تظهر دائمًا في صراعات العمل وتحرم الكثير من الكفاءات من التقدّم لأنّها لا تنتمي إلى الإقليم الذي يشكّل أبناؤه غالبيّة مؤثّرة في هذه المؤسّسة أو تلك، الأمر في حقيقته يعدّ انكماشًا لا مبرّر له".
وربما لا يزال قرّاء "إيلاف" الأعزّاء يذكرون ردّ الأمير سلمان بن عبد العزيز على الكاتب الصحفي في جريدة "الوطن"
السعوديّة صالح الشيحي حول مقال الأخير "ألسنا سعوديّين مثلهم؟!" حيث أشار إلى أنّ الكاتب نفسه وقع في فخ
المناطقيّة في ثنايا سطوره. وجاء في ردّ الأمير قوله: "في الحقيقة... الغرابة تكمن في التّركيز على هذه النغمة الجديدة وهي نغمة
المناطقيّة والإقليمية". كان ذلك يحمل دلالة مهمّة جدًّا تشي بأنّ الحكومة حريصة على عدم استشراء مثل هذا الكابوس وبالذات على المستوى الإعلامي الرسمي.
أكثر المداخلين هدوءًا في حوارات عن
المناطقيّة لا يتجاوز رأيه بأنّ شباب بعض الجهات لا يطالبون بأكثر من تغيير النّظرة المجتمعيّة والطبقيّة نحوهم، وأنّهم لا يسعون إلى إثبات تمييز في الخدمات الحكوميّة وغيرها في ظلّ أنّ الأخيرة لم تقصر مع الجميع إلاّ لأمور يقتضيها وضع الكثافة السكانيّة.