الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى، أما بعد فيا عباد الله:
ظاهرة تتكرر أمامي أحسب أن من الخير أن نشترك في الوقوف عندها، لعلنا نقطف منها العبرة والدرس اللذين ينبغي لكل مؤمن أن يقتطفهما من هذه الظاهرة.
أقف أمام إنسان مسلم ذي دخل محدود فأسأله عن حاله، وإذا به يستغرق في حمد الله عز وجل وشكره، ويعبِّرُ بلسان يكاد قلبه يسبقه إلى التعبير عن عظيم النعمة التي يتقلب بها، وعن الآلاء الإلهية التي يتلقاها من ربه سبحانه وتعالى. وأنظر إلى الدار التي هو فيها، وإذا بكل ما فيها وبكل زواياها تشكو الفاقة، تشكو الفقر والقلة.
ويصادف أن أجد واحداً من هؤلاء الأثرياء الذين أكرمهم الله سبحانه وتعالى بالغنى الفاحش، أسأل الواحد منهم أيضاً عن حاله، وإذا هو يطلق الزفرات الحارة يشكو فقد السيولة، يشكو سوء الحال، يشكو الخسارة المتوالية، ويمضي يطيل الكلام في الشكوى من العجز المادي، ومن السيولة الغائبة، ومن القهر الاقتصادي. وأتأمل في الدار التي هو فيها وإذا هي مليئة بكل أصناف المتع وبسائر أدوات الترف، إذا هي مشحونة بكل ما يحتاج إليه الإنسان من ضروريات أو حاجيات أو ما يدخل في ميزان الترف.
أليس هذا – أيها الإخوة – مما يثير العجب؟!
ذوي الدخل المحدود غارقون في شكر الله وحمده، لا يشعرون إلا بالمزيد من فضله، وأصحاب الثراء الكبير الفاحش يظلون يزفرون الزفرات المتوالية يشكون فقد السيولة، يشكون الحالة الاقتصادية المتراجعة، يشكون العجز المادي الذي يعانون منه.
إن هذا يذكِّرني – يا عباد الله – بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي يرويه الشيخان: "إذا كان لابن آدم وادٍ من مال ابتغى إليه ثانياً وإذا كان له واديان من مال ابتغى إليه ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب". هذا الذي يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي العجب ويبين السبب.
إن من شأن الإنسان – يا عباد الله – إذا أغدق الله عز وجل عليه النعمة وتوالت عليه الآلاء وأكرمه الله سبحانه وتعالى برغد العيش أشكالاً وألواناً تفجرت في نفسه الرغبات للمزيد من هذا الذي أكرمه الله عز وجل به، فيتجه طموحه وتتجه أطماعه إلى الأحلام التي تحتضن الرغبة في المزيد والمزيد، يتذكر هذا الذي يطمح إليه وينسى هذا الذي قد أنعم الله به عليه. تنسيه النعمةُ المنعمَ، وينسيه رغد العيش هذا الذي يتمتع به، ومن ثم فإنه إنما يتفكر في أحلامه والاستزادات التي يطمع فيها. فإن سأله سائل عن حاله التي هو فيها، عبر له عن تعلقه بالمزيد، ونسي أن يحدَّثه عن النعمة وشكر الله سبحانه وتعالى عليها. وهذا من معاني قول رسول الله: "إذا كان لابن آدم وادٍ من مال ابتغى إليه ثانياً".
لم يقل: إذا كان الإنسان مكتفياً، وإنما قال: "إذا كان له وادٍ من مال"، هذا هو الذي يفجِّرُ لديه الرغبة في المزيد، ومن هنا كان شكر الغني أصعب من صبر الفقير، الغني لكي يشكر لا بد أن يسخِّر النعمة التي أنعم الله بها عليه فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، ولا بد أن يغلق على نفسه الأبواب المحرَّمة، ويبقي باباً واحداً هو الباب الذي شرعه الله، أما الفقير فما أيسر عليه أن يصبر، ومهما كان فقيراً سيجد نعم الله سبحانه وتعالى ممتدةً إليه.
تعالوا نتساءل – يا عباد الله – كم في هؤلاء المترفين الذين أغدق الله عز وجل عليهم من النعم المزيد والمزيد، كم من هؤلاء من يلتزم ورداً دائماً من ذكر الله عز وجل وقراءة كتاب الله سبحانه وتعالى؟ كم في هؤلاء الذين يُسَمَّون برجال الأعمال كم في هؤلاء من يقوم ولو في الهزيع اليسير والأخير من الليل يقف بين يدي مولاه الذي أنعم عليه مناجياً، يسجد، يطيل السجود شاكراً حامداً، يحمد الله عز وجل، ويستغرق في الثناء على الله سبحانه وتعالى؟ كم في هؤلاء الذين يسبحون في بحارٍ من النعم قد لا تكون لها شطآن؟ كم فيهم من إذا دخل داره وقف أمام التحف التي تزدان بها زوايا داره، ونظر إلى التحفة الواحدة، فعلم أن قيمتها تيسِّر التزويج لشاب فقير من هؤلاء الذين يصبرون على لأواء الغريزة، من هؤلاء الذين يصبرون على حرارة الغريزة انتظاراً للفرَجِ الذي يأتيهم من عند الله عز وجل فيجعل من هذه التحفة وسيلة لتزويج واحدٍ من هؤلاء الشباب؟
أعود فأقول: كم في هؤلاء المنعمين المترفين الذين يَسْبَحُون في يمٍّ من نعم الله عز وجل، من يربطون النعمة بالمنعم، ويجعلون لأنفسهم ورداً دائماً من الارتباط بالله، يجعلون لأنفسهم ورداً من القيام في الأسحار، يتخذون من أفئدتهم النابضة وسيلة رحمة بمن ابتلاهم الله عز وجل به، والباري سبحانه وتعالى هو الذي ابتلى الغني بالفقير وابتلى الفقير بالغني: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [الفرقان:20]. هكذا يقول الله سبحانه وتعالى.
سقى الله – يا عباد الله – عهداً مرَّ بهذه البلدة المباركة. كان الأغنياء –ولربما كان غناهم يتجاوز غنى أغنى الناس اليوم – كانوا في وَضَحِ النهار تجاراً، فإذا جاء المساء تحوّلوا إلى طلاب علم، وتأبط كل واحدٍ منهم في المساء كتابه ينتجع العلم الشرعي في حلقات العلم الكثيرة ساعة وساعتين من الليل، ثم إذا أقبل الصباح أسرع كل واحدٍ منهم إلى المسجد المجاور يصلي الفجر جماعةً، ثم يعود إلى الدروس العلمية يدرس الفقه، ثم التفسير، ثم التوحيد، حتى إذا أقبل الضحى عاد الواحد منهم إلى داره يجلس مع أهله يؤنسهم ويستأنسون به، فإذا ارتفع النهار، واشتدت لفحة شمس الضحى عادوا إلى متاجرهم. سقى الله عهداً كان تجار هذه البلدة على هذه الشاكلة، صلتهم بالله عز وجل عامرة بمقدار ما صلتهم بالسوق أيضاً عامرة وغامرة. أولئك هم الذي وصفهم الله عز وجل بقوله: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ. لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:37-38]. وانظروا إلى آخر هذه الآية كيف تجدون ردَّ العجز على الصدر {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
هؤلاء الذين يدخرون جزءاً كبيراً من أوقاتهم لله، هؤلاء الذين يساهرون علوم الشريعة الإسلامية لكي يتشبعوا بالنهج الأمثل الذي ينبغي أن يتبيَّنُوه في معاملاتهم التجارية وغيرها، هؤلاء ربما قال قائل: إنهم خسروا هذه الأوقات، وكان بوسعهم أن يدّخروها لأعمالهم التجارية، وخططهم الربحية، ولكنّ الله يَعِدُهم بأنه سيعوِّض، ولسوف يرزقهم بغير حساب، وكان يرزقهم بغير حساب. لقد رأيت هؤلاء الأغنياء، ولكني رأيت فيهم سيما العبودية لله، رأيتهم لا ينفكون عن محراب العبادة والعبودية لله سبحانه وتعالى.
عباد الله: أنا أنظر إلى مجالس الذكر الكثيرة في هذا البلد الطيب، وأنظر إلى مجالس العلم الكثيرة في هذا البلد الطيب، فماذا أرى؟ أرى ذوي الدخل المحدود، أرى الفقراء، أرى هؤلاء الذين يتدانَون عن تلك الرتبة الدنيوية العالية، أراهم هم الذين تمتلئ بهم المساجد وأماكن الذكر والعبادة، وكم بحثت يميناً وشمالاً عن هؤلاء رجال الأعمال – أقولها بصراحة – فلا أجد واحداً منهم إلا من ندر، وربما كان ذلك في بعض الأحيان.
ألا فليسمع هؤلاء الإخوة، وأسأل الله أن يسمعهم كلامي، أيها الإخوة، إذا أكرم الله عز وجل عبداً بالنعمة فمن اللؤم أن يشتغل بالنعمة وينسى المنعم، إذا أكرم الله عز وجل عبداً بالعطاء فمن اللؤم أن يصبح عبداً للنعمة وأن ينسى المنعم المتفضل. من الذي أعطاني؟ الله. من الذي أكرمني برغد العيش؟ الله.
ولكن أفيحسب هؤلاء الإخوة أن السعادة في الكم الذي يفيض به الصندوق المالي؟ لا. السعادة في الشعور الغمر الذي يجعل الإنسان عندما يشاء الله ويتجلى عليه بانشراح الصدر يشعر بالرقصة القلبية التي تهيمن على كيانه.
رُبَّ رجلٍ لم يكرمْه الله عز وجل بالغنى الوفير، لكن الله تجلى عليه بالرحمة الغامرة، فهو في كل حركاته وسكناته سعيد يتمتع برغدٍ من العيش، ويتمتع بسرور لا يستطيع البيان أن يصفه.
ورُبَّ رجلٍ أكرمه الله عز وجل بالعطاء الوفير، والأرقام الكثيرة الطويلة من المال، ولكن انظر إلى حاله تجد الضنى يسري في كيانه، انظر إلى الأمسيات التي يعود فيها إلى داره، وانظر كم يتقلب في فراشه ريثما يستقبل نعمة الرقاد من مولاه وخالقه سبحانه وتعالى. ألا {فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت:17] ابتغوا الرزق بالانقياد لأمر الله سبحانه وتعالى.
ليس هنالك عسر اقتصادي أبداً، وليس هنالك ضيق في السيولة أبداً. عطاء الله لم ينقطع، ورزق الله ممتد متطاول يتضاعف، ولكن الابتلاء هو الذي ينبغي أن نتنبه إليه، وهو الذي ينبغي أن نلتقط العبرة والدرس منه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، فاستغفروه يغفر لكم، فيا فوز المستغفرين.
gh dlgH [,t hfk N]l Ygh hgjvhf