قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ...) (إبراهيم/ 31).
الصّلاة هجرة روحية يطوي الإنسان فيها فواصل البعد بينه وبين الله، وممارسة تعبّدية يستهدف بها اكتشاف العلاقة بينه وبين بارئه، بوعي روحي مجرّد، وتفتّح وجداني متيقِّظ..
ففي الصّلاة يكون الإنسان في موارد القرب والحب الإلهي العظيم..
وفي الصّلاة يعلن عن تصاغره وعبوديته لخالقه..
وفي الصّلاة تتّسع أمام الإنسان آفاق العظمة والقدرة الإلهيّة..
وفي الصّلاة يتجسّد للإنسان فقره وضعفه وحاجته إلى غنى بارئه وتتابع إفاضاته ورحمته..
وفي الصّلاة تهبط الحجب بين العبد وربّه، فتفيض إشراقات الحب والجمال الإلهي على النفس، لتعيش أسعد لحظات الاستمتاع والرّضا؛ وهي في أرقى ما تكون من حالات الصحو الوجداني، والاستعداد للتلقي والقبول التعبّدي..
وفي الصّلاة عودة للوعي، واكتشاف لحقيقة الذات، ومعرفة قدرها أمام خالقها العظيم..
وفي الصّلاة محاولة صادقة للهجر والخلاص من الذنوب..
وفي الصّلاة سعي للعودة بطهارة النفس وسلامتها إلى لحظة ميلادها الفطري، بنقائه وطهارته؛ لأنّ في الصّلاة عزيمة جادّة لهجر الذنوب والمعاصي، ومحاولة مخلصة للانفلات من قيود المادّة والشّهوة..
فهي سعي للهجرة إلى الله، والتسامي نحوه. وهي محاولة للتعالي والانتقال إليه. وهي عودة إلى الله بعد كل فترة زمنية يمارس فيها الإنسان حياته؛ فيتعامل مع نفسه، أو مع الله، والناس الذين يعيش معهم، فيتهاون بأداء حقوق الله عليه حيناً، أو يسيء إلى الناس فيسلك سلوكاً شاذاً ومنحرفاً حيناً آخر، فيكون بحاجة إلى التخلّص من هذه الآثار السلوكية السلبية، والتوجهات النفسية المنحرفة، فيجد في الصلاة محطّة لتطهير النفس والتأمّل في خيرها وصلاحها، ومنطلقاً لتغيير مساره وتوجِّهه في الحياة..
فهو في وقفته الصادقة بين يدي الله، يستغفره ويتضرّع إليه، ويعلن براءته وندمه، ورغبته في الاستقامة والطهارة، فيجدِّد بذلك عهده مع الله، ويستشرف آفاق مسيرته الحياتية من أوضح مداخلها، وأصفى أجوائها، فتنمو بكثرة الممارسة والاقبال على الصلاة ملكات الخير، وتتصاغر نوازع الشر، وتتوارى عن الظهور مناشئ الإجرام؛ فتقوى بذلك العزيمة، وتشتدّ الإرادة على الاصلاح وارتياد سبل الخير، وتنمو الرغبة في الطّرح والخلاص من كل سيِّئ في الحياة، بممارسة انسحاب النفس الدائم، وإخلاء آفاقها من عتمة الجرائم والآثام.. لذا كانت الصّلاة نظاماً تعبّديّاً لوقاية النفس من شذوذها، وعلاجاً جذرياً يداوي أمراضها، بتعهّد قواها وملكاتها ونوازعها بالتنشئة الصّحيحة، والتربية المستقيمة.
وصدق الرّسول العظيم صلى الله عليه وسلم وهو يصف أهميّة الصّلاة، ودورها في تطهير النفس وتقويم السلوك البشري في الحياة بقوله:
"لو كان على باب دار أحدكم نهر فاغتسل في كلّ يوم منه خمس مرّات، أكان يبقى في جسده من الدّرن شيء؟ قلنا: لا، قال: فانّ مثل الصّلاة كمثل النّهر الجاري، كلّما صلّى صلاة كفّرت ما بينهما مِنَ الذّنوب".
وجاءه صلى الله عليه وسلم رجل فقال له: يا رسول الله! أوصني، فقال: "لا تدع الصّلاة متعمِّداً، فإنّ مَن تركها متعمِّداً فقد برئت منه ملّة الاسلام".
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: "ما بين الكفر والإيمان ألّا ترك الصّلاة".
وقال صلى الله عليه وسلم: "لكلّ شيء وجه، ووجهُ دينكم الصّلاة، فلا يُشِينَنّ أحَدُكُم وجهَ دينه".
وروي كذلك عنه صلى الله عليه وسلم: "ليسَ مِنّي من استخفّ بصلاته، لا يَردُ علي الحوضَ لا والله".
وروي عن الإمام الصادق : "ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصّلاة، ألا ترى العبد الصالح عيسى بن مريم قال: وأوصاني بالصّلاة والزّكاة ما دمتُ حيّاً".
ولهذه الأهميّة العظمى للصلاة أصبحت فريضة عبادية في كل رسالة إلهيّة بشّر بها الأنبياء لأنّها الصِّلة بين العبد وربّه، ولأنّها معراج يتسامى الفرد بها إلى مستوى الاستقامة والصلاح. ولذلك فإنّ القرآن عندما تحدّث عن الأنبياء ورسالتهم في الحياة، قال:
(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء/ 73).
فالصّلاة شعار وعلامة للفرد المؤمن، وللأُمّة المؤمنة، وهي حدّ فاصل بين المؤمن الحق، وبين مَنْ لا ينتمي لأُمّة الإيمان.
لذا جاء قوله تعالى: (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) (النِّساء/ 103).
فهي شعار أهل الإيمان، وصفة أُمّة التوحيد على تعاقب الأجيال، وتتابع الرسالات والعصور. لذلك تحدّث القرآن الكريم عن أُولئك المسلمين وعن شعارهم مع نبيّ الإسلام محمّد صلى الله عليه وسلم فأثنى عليهم، وقرن صفتهم بصفة أسلافهم من أتباع الأنبياء، وأصفياء الرسل، فقال عزّ من قائل:
(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ...) (الفتح/ 29).
وما كان للقرآن هدف في هذا العرض التاريخي للصلاة إلّا ليؤكّد للمؤمنين أنّ الصلاة في كلّ الرسالات الإلهيّة كانت أولى شعائرها، ومخّ عبادتها بعد الإيمان بالله.
وكم أوحى لنا القرآن بقداسة الصلاة وأهميتها في دعوة الأنبياء، فحدّثنا عن مناجاة أبي الأنبياء وشعاره الحنيفي الذي تلقّاه من ربّه، والذي كان يردِّده خشوعاً يناسب في نفوس أتباعه، عقيدةً ووعياً، وطريقة:
(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام/ 162-163).
وكم كان يشتدّ بإبراهيم عليه السلام الشوق إلى الله، فيرفع دعاؤه إليه رجاءاً منه أن يجعله وذرِّيّته من مقيمي الصّلاة والمتعبِّدين بها، فيقول: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي...) (إبراهيم/ 40).
وهكذا عرض لنا القرآن نماذج من الخطابات الإلهيّة الموجِّهة للأنبياء، بوجوب الصّلاة فريضة على أُممهم وأتباعهم؛ ليؤكِّد أهميّة الصّلاة، ويوضِّح مركزها في دعوات الأنبياء ورسالات الرّسل.