قال الله تعالى : { وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً } [ الإسراء13 ] .
وقال حاتم الأصم : من خلا قلبه من ذكر أربعة أخطار فهو مغتر فلا يأمن الشقاء :
الأول : خطر يوم الميثاق ، حين قال هؤلاء في الجنة ولا أبالي ، وهؤلاء في النار ولا أبالي ، فلا يعلم في أي الفريقين كان .
والثاني : حين خلق في ظلمات ثلاث ، فنادى الملك بالشقاوة والسعادة ولا يدري أمن الأشقياء هو أم من السعداء .
والثالث : ذكر هول المطلع فلا يدري أيبشر برضا الله أم بسخطه .
والرابع : يوم يصدر الناس أشتاتاً ، فلا يدري أي الطريقين يسلك به [ جامع العلوم والحكم ] .
قال الله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ } [ الزمر47 ] .
عن أبي عنبة الخولاني _ سُرَيْجٌ وَلَهُ صُحْبَةٌ _ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْراً عَسَلَهُ " ، قِيلَ : وَمَا عَسَلُهُ ؟ قَالَ : " يَفْتَحُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ عَمَلاً صَالِحاً قَبْلَ مَوْتِهِ ، ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ " [ رواه أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 307 ] .
قصة فاعل الخير :
يقول أحد العاملين في أمن الطرق : حصل حادث لشاب في مقتبل العمر متدين يبدو ذلك من مظهره ، وعندما حملناه سمعناه يهمهم ، ولكن عندما وضعناه في السيارة وسرنا ،سمعنا صوتاً مميزاً ، إنه يقرأ القرآن وبصوت ندي ، سبحان الله لا تقول : هذا مصاب ، الدم غطى ثيابه وتكسرت عظامه ، واستمر يقرأ بصوت جميل ، لم أسمع في حياتي مثل تلك القراءة ، كنت أحدث نفسي وأقول : سألقنه الشهادة ، وفجأة سكت ذلك الصوت ، التفت إلى الخلف ، فإذا به رافع إصبع السبابة يتشهد ، ثم انحنى رأسه ، وفارق الحياة ، وصلنا إلى المستشفى وأخبرناهم بالخبر ، فتأثروا من حادثة موته ، وذرفت دموعهم ، اتصل أحد الموظفين بمنزل المتوفى ، وكان المتحدث أخوه قال عنه : إنه يذهب كل اثنين إلى زيارة جدته الوحيدة في القرية ، وكان يتفقد الأرامل والأيتام والمساكين ، وكانت تلك القرية تعرفه ، فهو يحضر لهم الكتب والأشرطة الدينية ، وكان يذهب وسيارته مملوءة بالأرز والسكر لتوزيعها على المحتاجين ، وحتى حلوى الأطفال لا ينساها ليفرحهم بها ، فكانت نهايته تلك النهاية السعيدة ، والخاتمة الحسنة .
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْراً اسْتَعْمَلَهُ " ، فَقِيلَ : كَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ الْمَوْتِ " [ رواه الترمذي ، وقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ] .
وما أكثر الذين يموتون اليوم من المسلمين على أعمالٍ صالحة ، وهي كثيرة ومنها :
أن يموت وهو ساجد ، أو وهو يقرأ القرآن ، أو وهو في طريقه لأداء الحج أو العمرة ، أو وهو ذاهب ليصل رحماً أو غير ذلك من أعمال البر والخير والصلاح .
الثانية والعشرون : المقتول دون مظلمته :
عَنْ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ " [ رواه النسائي ، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 6447 ] .
ومعنى مظلمته : أي قصده قاصد بالظلم .
قال ابن جرير : " هذا أبين بيان ، وأوضح برهان ، على الإذن لمن أريد ماله ظلماً ، في قتال ظالمه ، والحث عليه كائناً من كان ، لأن مقام الشهادة عظيم ، فقتال اللصوص والقطاع مطلوب ، فتركه من ترك النهي عن المنكر ، ولا منكر أعظم من قتل المؤمن وأخذ ماله ظلماً " [ فيض القدير 6/253 ] .
الثالثة والعشرون : التبسم بعد الموت :
ليس هناك نص صحيح صريح ، بأن التبسم عند الموت من علامات حسن الخاتمة ، ولكن هذا يفهم من عدة نصوص ، فإن المحتضر إن كان من أهل السعادة ، فإنه يرى ملائكة الرحمة بيض الوجوه ، معهم أكفان من الجنة ، وحنوط من الجنة ، ثم يأتي ملك الموت فيجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس المطمئنة ، أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان . رواه أحمد عن البراء رضي الله عنه.
فقد يبتسم المحتضر لذلك ، ومما يدل على هذا أيضاً ما رواه أحمد عن طلحة بن عبيد الله عندما زاره عمر وهو ثقيل وفيه: إني سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً ما منعني أن أسأل عنه إلا القدرة عليه حتى مات، سمعته يقول: إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد عند موته إلا أشرق لها لونه ونفس الله عنه كربته، قال: فقال عمر: إني لأعلم ما هي، قال: وما هي؟ قال: تعلم كلمة أعظم من كلمة أمر بها عمه عند الموت: لا إله إلا الله ؟ قال طلحة: صدقت هي والله.
ومحل الشاهد من الحديث قوله : أشرق لها لونه ، ولكن هذا مع النطق بالشهادة .
واعلم أخي الكريم أن ظهور شيء من علامات حسن الخاتمة لا يلزم منه الجزم بأن صاحبها من أهل الجنة ، ولكن يستبشر له بذلك ، كما أن عدم وقوع شيء منها للميت لا يلزم منه بأنه غير صالح ، فهذا كله من الغيب .
الرابعة والعشرون : مرض السل :
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " السِّلُّ شهادةٌ " [ رواه أحمد والطبراني وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 3691 ] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " القتلُ في سبيل الله شهادةٌ ، والنفساءُ شهادة ، والحرقُ شهادةٌ ، والغرق شهادة ، والسِّل شهادة ، والبطنُ شهادةٌ " [ رواه الطبراني وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم 4439 ] .
سؤال :
لماذا سُمي الشهيد بهذه التسمية ؟
الجواب :
ذكر ابن حجر رحمه الله أسباباً عدة لهذه التسمية فقال :
اختلف في سبب تسمية الشهيد شهيداً :
1- فقال النضر بن شميل : لأنه حي فكأن أرواحهم شاهدة أي حاضرة .
2- وقال ابن الأنباري : لأن الله وملائكته يشهدون له بالجنة .
3- وقيل : لأنه يشهد عند خروج روحه ما أعد له من الكرامة .
4- وقيل : لأن عليه شاهداً بكونه شهيداً .
5- وقيل : لأنه لا يشهده عند موته إلا ملائكة الرحمة .
6- وقيل : لأنه الذي يشهد يوم القيامة بإبلاغ الرسل .
7- وقيل : لأن الملائكة تشهد له بحسن الخاتمة .
8- وقيل : لأن الأنبياء تشهد له بحسن الاتباع .
9- وقيل : لأن الله يشهد له بحسن نيته وإخلاصه .
10- وقيل : لأنه يشاهد الملائكة عند احتضاره .
11- وقيل : لأنه يشاهد الملكوت من دار الدنيا ، ودار الآخرة .
12- وقيل : لأنه مشهود له بالأمان من النار .
13- وقيل : لأن عليه علامة شاهدة بأنه قد نجا .
وبعض هذه يختص بمن قتل في سبيل الله ، وبعضها يعم غيره ، وبعضها قد ينازع فيه [ فتح الباري 8/438 ] .
قبل الختام :
فإن حسن الخاتمة أن يوفق العبد قبل موته للبعد عمَّا يغضب ربه سبحانه ، والتوبة من الذنوب والمعاصي ، والإقبال على الطاعات وأعمال الخير ، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة .
تنبيه هام :
قال السبكي عندما سئل عن الشهادة وحقيقتها قال : إنها حالة شريفة تحصل للعبد عند الموت ، لها سبب ، وشرط ، ونتيجة .
من هذه الشروط : الصبر والاحتساب ، وعدم الموانع كالغلول ، والدَّين ، وغصب حقوق الناس ، ومن الموانع كذلك : أن يموت بسبب معصية ، كمن دخل داراً ليسرق فانهدم عليه الجدار ، فلا يقال له شهيد ، وإن مات بالهدم ، وكذلك الميتة بالطلق ، الحامل من الزنا .
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية : عن رجل ركب البحر للتجارة فغرق فهل مات شهيدًا ؟
فأجاب : نعم مات شهيدًا ، إذا لم يكن عاصيًّا بركوبه .
وقال في موضع آخر: ومن أراد سلوك طريق يستوي فيها احتمال السلامة والهلاك ، وجب عليه الكف عن سلوكها ، فإن لم يكف فيكون أعان على نفسه فلا يكون شهيداً .
ومع ذلك قال بعض العلماء : إن من مات بهذه الميتات ، وهو موحد ، فإننا نرجو له الحصول على أجر الشهادة ، وإن كان مفرِّطاً في بعض الواجبات ، أو مرتكباً لبعض المحرمات ، فرحمة الله واسعة ، وفضله عظيم ، والعلم عند سبحانه ، فهو علام الغيوب ، وستار العيوب .
فائدة ذُكِرَتْ :
ذكر الحافظ أنه من خلال نظره في الأحاديث ، تَحَصَّلَ له إطلاق الشهادة على عشرين خصلة .
وذكر الحافظ السيوطي نحواً من ثلاثين .
لكن هناك روايات ضعيفة لا يُعتد بها .
قال ابن التين : هذه كلها ميتات فيها شدة ، تفضل الله بها على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن جعلها تمحيصاً لذنوبهم ، وزيادة في أجورهم ، يبلغهم بها مراتب الشهداء .
ووصف هؤلاء بالشهداء : بمعنى أنهم يعطون من جنس أجر الشهداء ، ولا تجري عليهم أحكام الشهداء في الدنيا .
من الشهداء أيضاً :
ذكر بعض العلماء كابن حجر وغيره نوعاً من الميتات ، يكون أهلها من الشهداء ، وممن حسنت خاتمتهم ومنهم :
من وقصه فرسه ، أو بعيره ، أو لدغته هامة ، أو مات على فراشه على أي حتف شاء الله تعالى ، فهو شهيد .
وصحح الدارقطني من حديث ابن عمر " موت الغريب شهادة " .
وقال ذلك أيضاً في المبطون ، واللديغ ، والغريق ، والشريق ، والذي يفترسه السبع ، والخار عن دابته .
ولأبي داود من حديث أم حرام " المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد " .
وفي حديث عقبة بن عامر فيمن صرعته دابته ، وهو عند الطبراني .
وعنده من حديث ابن مسعود بإسناد صحيح " أن من يتردى من رءوس الجبال وتأكله السباع ، ويغرق في البحار ، لشهيد عند الله " .
وقال صلى الله عليه وسلم : " من صرع عن دابته فهو شهيد " [ رواه مسلم ] . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قتلُ الصبرِ لا يمر بذنبٍ إلا محاه " [ حديث حسن رواه البزار ] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من فصل في سبيل الله فمات ، أو قتل ، أو وقصته فرسه ، أو بعيره ، أو لدغته هامةٌ ، أو مات على فراشه بأي حتفٍ شاء الله ، فإنه شهيد ، وإن له الجنة " [ حديث حسن رواه أبو داود والحاكم ] .
نهاية المطاف :
هذا هو نهاية المطاف ، وثمر القطاف ، من هذه المحاضرة والتي استمرت أربعة أيام ، عشنا فيها مع آيات من كتاب الله تعالى ، وأحاديث من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وذكرنا فيها شيئاً من أقوال العلماء ، وفي الختام ، الله أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب ، ونسأله حسن الخاتمة والمتاب ، اللهم إنا نسألك حسن الخاتمة والموت على الهداية ، وحسن الرعاية والعناية ، والتوبة مما صدر في البداية والنهاية ، وأن تحشرنا في زمرة الأنبياء وأرباب الولاية ، اللهم تقبلنا في الشهداء ، اللهم أحسن خاتمنا ، واجعل عاقبة أمرنا إلى خير ، وتوفنا على الإيمان ، اللهم توفنا وأنت راض عنا غير غضبان ، واغفر لنا جميع الذنوب والأخطاء والعصيان ، وأدخلنا الجنة بغير حساب ولا عذاب ، إنك على كل شيء قدير ، والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .